أخبار

المنطقة العربية… من الفراغ الاستراتيجي إلى الهيمنة الاستراتيجية

 

إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفراغ‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬فقَدَ‭ ‬جدواه‭ ‬تمامًا،‭ ‬أو‭ ‬انتهى‭ ‬أوانه،‭ ‬مع‭ ‬انطلاق‭ ‬تنفيذ‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬بدءا‭ ‬بالحرب‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭/ ‬تشرين‭ ‬أول‭ ‬2023،‭ ‬وما‭ ‬كشفته‭ ‬من‭ ‬تراجع‭ ‬خطير‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬العربي‭ ‬السيادي‭ ‬والأمني‭ ‬والعسكري‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬شعب‭ ‬عربي‭ ‬أعزل‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬أمام‭ ‬أشرس‭ ‬حرب‭ ‬شهدتها‭ ‬البشرية،‭ ‬وأكثرها‭ ‬انتهاكًا‭ ‬للقوانين‭ ‬الدولية‭ ‬والمواثيق‭ ‬الإنسانية؛‭ ‬وما‭ ‬كشفته‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬مؤشرات‭ ‬حول‭ ‬ملء‭ ‬هذا‭ ‬الفراغ‭ ‬بهيمنة‭ ‬إسرائيلية‭ ‬استراتيجية‭ ‬قادمة،‭ ‬بالتعاضد‭ ‬والتنافس‭ ‬مع‭ ‬الدور‭ ‬الإيراني‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بالمرتبة‭ ‬الثانية‭ ‬إقليميًّا،‭ ‬بعد‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬الموقف‭ ‬الإيراني‭ ‬الحذر‭ ‬في‭ ‬مجاراة‭ ‬العملية‭ ‬الحربية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬في‭ ‬غزة‭. ‬

 

الحرب‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬وكشف‭ ‬الحساب‭ ‬العربي

 

كشفت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬عن‭ ‬تجرّد‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬قدراتهم‭ ‬السياسية‭ ‬والدبلوماسية،‭ ‬فعجزوا‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬قطع‭ ‬علاقاتهم‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬وعجزوا‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬التهديدات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والصهيونية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يفكر‭ ‬بالتدخل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬لصالح‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬وعجزوا‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬فرض‭ ‬سيادتهم‭ ‬على‭ ‬معابرهم‭ ‬المائية‭ ‬لمنع‭ ‬عبور‭ ‬الأساطيل‭ ‬الغربية‭ ‬بذريعة‭ ‬حماية‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬الصهيونية،‭ ‬بينما‭ ‬تجمعها‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬المتوسط‭ ‬يُنذر‭ ‬بتهديد‭ ‬جديد‭ ‬للمنطقة‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬النفوذ‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬المتصارعة‭ ‬حول‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الجديد‭.‬

 

كشفت‭ ‬الحرب‭ ‬عن‭ ‬عجز‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬موقف‭ ‬عربي‭ ‬موحد‭ ‬وحازم،‭ ‬فوقفوا‭ ‬جميعاً‭ ‬متفرجين،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬فعل‭ ‬أو‭ ‬رد‭ ‬فعل،‭ ‬أمام‭ ‬مشاهد‭ ‬الذبح‭ ‬وشلالات‭ ‬الدم‭ ‬والتدمير‭ ‬الشامل‭ ‬والإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬غزة‭… ‬وأمام‭ ‬تصريح‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬الذي‭ ‬اعترف‭ ‬بصراحة،‭ ‬وجرأة‭ ‬متناهية،‭ ‬بأنه‭ ‬سيعمل‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬خريطة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭. ‬

 

وكشفت‭ ‬الحرب‭ ‬عن‭ ‬فشل‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬واستشراف‭ ‬المخطط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الذي‭ ‬ينفذه‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬أخطر‭ ‬فترات‭ ‬التحول‭ ‬الدولي؛‭ ‬ومازال‭ ‬الإصرار‭ ‬الصهيوني‭ ‬مستمرا‭ ‬على‭ ‬توطين‭ ‬فلسطينيي‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬سيناء،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنفي‭ ‬ما‭ ‬يتردد‭ ‬عن‭ ‬نية‭ ‬توطين‭ ‬فلسطينيي‭ ‬الضفة‭ ‬في‭ ‬الأردن‭… ‬وها‭ ‬نحن،‭ ‬الشعوب‭ ‬المتفرجة،‭ ‬ننتظر‭ ‬لنشاهد‭ ‬ما‭ ‬القوة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ستمنع‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬تنفيذ‭ ‬أهدافها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬خريطة‭ ‬المنطقة‭ ‬وتوزيع‭ ‬شعوبها‭ ‬كما‭ ‬تشاء،‭ ‬وحيثما‭ ‬تشاء؟

 

نعم،‭ ‬فشل‭ ‬العرب‭ ‬بامتياز‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬واستشراف‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الخطير‭ ‬الذي‭ ‬يُباد‭ ‬ويُشرّد‭ ‬لأجله‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مليوني‭ ‬نسمة‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬وما‭ ‬يتم‭ ‬التخطيط‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬مبالاة‭ ‬بإرادة‭ ‬ومشاعر‭ ‬نصف‭ ‬مليار‭ ‬عربي،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬4‭ ‬مليار‭ ‬مسلم‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

 

إسرائيل‭ ‬الجديدة

 

لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬يستعرض‭ ‬الصهاينة‭ ‬قوتهم‭ ‬النارية‭ ‬الدموية‭ ‬أمام‭ ‬العالم،‭ ‬دون‭ ‬مبالاة‭ ‬بالرأي‭ ‬العام‭ ‬الدولي،‭ ‬ودون‭ ‬مبالاة‭ ‬بفقدانهم‭ ‬زخم‭ ‬التعاطف‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬جمعوه‭ ‬حولهم‭ ‬بقواهم‭ ‬الناعمة‭ ‬وأذرعهم‭ ‬السامة‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬الاحتلال‭. ‬

 

ولأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬ينزع‭ ‬الصهاينة‭ ‬قناع‭ ‬المظلومية‭ ‬والمَسْكَنَة‭ ‬ويكشفون‭ ‬عن‭ ‬وجههم‭ ‬المتوحش‭ ‬العرقي‭ ‬العنصري‭ ‬الحقيقي‭.‬

 

ولأول‭ ‬مرة‭ ‬يضرب‭ ‬الصهاينة‭ ‬بالإعلام‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬غير‭ ‬مبالين‭ ‬بما‭ ‬يتداوله‭ ‬عن‭ ‬انتهاكاتهم‭ ‬الخطيرة‭ ‬لكل‭ ‬قواعد‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ومواثيق‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬ووصفت‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الدولية‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬الشنيعة‭ ‬بأعمال‭ ‬النازيين‭ ‬الذين‭ ‬يطبقون‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬للشعوب‭ ‬باستخدام‭ ‬أسلحة‭ ‬محرمة،‭ ‬وبقتل‭ ‬الأطفال‭ ‬والنساء،‭ ‬وقصف‭ ‬المستشفيات‭ ‬والمدارس،‭ ‬وبتجويع‭ ‬وتعطيش‭ ‬شعب‭ ‬بأكمله‭. ‬

 

لأول‭ ‬مرة‭ ‬يعمل‭ ‬الصهاينة‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬الأسلحة‭ ‬المحرمة‭ ‬علنا،‭ ‬وعلى‭ ‬قصف‭ ‬المساجد‭ ‬وسيارات‭ ‬الإسعاف‭ ‬علنا،‭ ‬والتهديد‭ ‬بالقصف‭ ‬النووي‭ ‬علنا،‭ ‬دون‭ ‬مبالاة‭ ‬بكل‭ ‬قوى‭ ‬العالم،‭ ‬شرقا‭ ‬وغربا‭.‬

 

ولأول‭ ‬مرة‭ ‬يدخل‭ ‬الصهاينة‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬طويلة‭ ‬بتكلفة‭ ‬مالية‭ ‬خيالية،‭ ‬وتكلفة‭ ‬بشرية‭ ‬عالية‭ ‬بين‭ ‬جنوده،‭ ‬وبتكلفة‭ ‬اقتصادية‭ ‬وديموغرافية‭ ‬خطيرة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسكان‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬ترفض‭ ‬التفاوض‭ ‬لوقف‭ ‬القتال‭.‬

 

في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الحسابات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتطابق‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الصهيوني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬بالخسائر،‭ ‬ولا‭ ‬يدفع‭ ‬دولاراً‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكسب‭ ‬ضعفه،‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬واجبنا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬ستجنيه‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الحرب؟‭ ‬وما‭ ‬الفوائد‭ ‬المضاعفة‭ ‬التي‭ ‬ستعوض‭ ‬خسائرها‭ ‬الكبرى‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الحرب؟؟؟‭ ‬وما‭ ‬الأهداف‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬الكيان‭ ‬المحتل‭ ‬التي‭ ‬استحقت‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬الأخطر‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الصهيوني؟؟؟

 

لربما‭ ‬يصعب‭ ‬علينا‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي،‭ ‬بانتظار‭ ‬ما‭ ‬ستكشف‭ ‬عنه‭ ‬مراحل‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬قريباً،‭ ‬ولكن‭ ‬يمكننا‭ ‬استنباط‭ ‬مؤشرات‭ ‬لتسهيل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬جواب‭ ‬علمي‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭.‬

 

أولاً‭: ‬الفرصة‭ ‬التاريخية‭… ‬الفراغ‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬القيادي‭ ‬والعسكري‭ ‬العربي‭ ‬

 

وهنا‭ ‬يجب‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬ستقوم‭ ‬بهذه‭ ‬الحرب‭ ‬أصلاً‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متأكدة‭ ‬أن‭ ‬المنطقة‭ ‬فارغة‭ ‬ومنزوعة‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬قوة‭ ‬ردع،‭ ‬أو‭ ‬مواجهة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تدعم‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬وهذا‭ ‬أكبر‭ ‬ضمان‭ ‬لتحقيق‭ ‬النصر‭. ‬

 

نعم،‭ ‬لقد‭ ‬أكدت‭ ‬لنا‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬حقيقة‭ ‬خطيرة‭ ‬كنا‭ ‬نعرفها‭ ‬مسبقاً،‭ ‬وهي‭ ‬إن‭ ‬دولنا‭ ‬العربية،‭ ‬الاثنتين‭ ‬والعشرين،‭ ‬المعنية‭ ‬والمهددة‭ ‬مباشرة‭ ‬بدول‭ ‬الجوار‭ ‬الإقليمي‭ ‬شرقاً‭ ‬وغرباً،‭ ‬تفتقد‭ ‬اليوم‭ ‬لقوة‭ ‬القيادة‭ ‬الفكرية‭ ‬والمركزية‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬أي‭ ‬صراع‭ ‬أو‭ ‬تهديد‭ ‬خارجي‭ ‬أو‭ ‬داخلي؛‭ ‬أي‭ ‬باتت‭ ‬المنطقة‭ ‬مكشوفة‭ ‬أمام‭ ‬أعدائها‭ ‬ومخططاتهم‭.‬

 

بعد‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬العسكرية،‭ ‬والاحتلالات،‭ ‬والحرب‭ ‬على‭ ‬الإرهاب،‭ ‬وانتشار‭ ‬المليشيات‭ ‬والعصابات،‭ ‬واستنزاف‭ ‬القدرات‭ ‬الأمنية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬ونشر‭ ‬الفوضى‭ ‬الإدارية‭ ‬والسياسية،‭ ‬باتت‭ ‬المنطقة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الجيوش‭ ‬والقوى‭ ‬العسكرية‭ ‬المتمكنة‭ ‬من‭ ‬خوض‭ ‬أية‭ ‬حروب‭ ‬صغيرة‭ ‬كانت،‭ ‬أو‭ ‬كبيرة،‭ ‬مثل‭ ‬حرب‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬غزة،‭ ‬التي‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬مقومات‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المتفوقة‭ ‬وعن‭ ‬قوة‭ ‬قيادتها‭ ‬وإرادتها‭ ‬وحزمها‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الصراع‭.‬

 

وللتذكير‭ ‬فقط،‭ ‬وبعيداً‭ ‬عن‭ ‬ضرورات‭ ‬امتلاك‭ ‬القوة‭ ‬النووية‭ ‬كما‭ ‬تملكها‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وستملكها‭ ‬إيران‭ ‬قريبا،‭ ‬فإن‭ ‬للقوة‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا‭ ‬مقوماتها‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬التصنيع‭ ‬العسكري،‭ ‬وصناعة‭ ‬السلاح،‭ ‬وصناعة‭ ‬المعرفة‭ ‬وعلوم‭ ‬التكنولوجيا؛‭ ‬وهي‭ ‬جميعاً‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬العرب،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬تعتمد‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬استجداء‭ ‬السلاح‭ ‬والتدريب‭ ‬والمعرفة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحلفاء‭ ‬الألداء‭ ‬في‭ ‬الغرب‮»‬‭. ‬

 

أما‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتحدثون‭ ‬بسذاجة‭ ‬بالغة‭ ‬حول‭ ‬قدرات‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السلام‭ ‬بالمنطقة‭ ‬بقوة‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬والحلول‭ ‬السلمية،‭ ‬فنؤكد‭ ‬لهم‭ ‬إننا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬مختلف،‭ ‬وإن‭ ‬منطق‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬أرقى‭ ‬وأذكى‭ ‬الهيئات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬والسياسية‭ ‬والفكر‭ ‬السلمي،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مستندة‭ ‬بمقومات‭ ‬القوة‭ ‬المعرفية‭ ‬الصلبة‭ ‬والناعمة،‭ ‬الإعلام‭ ‬والجيش،‭ ‬التسليح‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬والقوة‭ ‬البشرية،‭ ‬فإنها‭ ‬لن‭ ‬تحقق‭ ‬أي‭ ‬نجاح‭. ‬

 

ومن‭ ‬المؤسف‭ ‬إن‭ ‬أغلب‭ ‬الهيئات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬العربية‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المستويات‭ ‬الفكرية‭ ‬والمعرفية‭ ‬التاريخية‭ ‬والواقعية‭ ‬حول‭ ‬دور‭ ‬الجوار‭ ‬الإقليمي‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمة‭ ‬وأحداثها‭ ‬الراهنة،‭ ‬كما‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الفهم‭ ‬العميق‭ ‬لثقافاتها‭ ‬السياسية‭ ‬والتفاوضية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والبراجماتية‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تسخيرها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭ ‬لتحقيق‭ ‬انتصاراتها‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬السلمية،‭ ‬وإن‭ ‬العرب‭ ‬لم‭ ‬ينتصروا‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬مرحلة‭ ‬تفاوض‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬ولا‭ ‬إسرائيل‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬جل‭ ‬الانتصارات‭ ‬عندما‭ ‬تعامل‭ ‬العرب‭ ‬مع‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬امتلاكهم‭ ‬القوة‭… ‬فأعداؤنا‭ ‬لا‭ ‬يخافون‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬العدو‭ ‬القوي؛‭ ‬لذلك‭ ‬يعد‭ ‬معيباً‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬بفوقية‭ ‬عن‭ ‬قدراتنا‭ ‬في‭ ‬إحلال‭ ‬السلام‭ ‬بخطاب‭ ‬السلم،‭ ‬والدبلوماسية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نملك‭ ‬خط‭ ‬الدفاع‭ ‬الثاني،‭ ‬لأننا‭ ‬أيضاً‭ ‬سنكون‭ ‬من‭ ‬الخاسرين‭.‬

 

ثانيًا‭: ‬صراع‭ ‬التحول‭ ‬الدولي

 

إن‭ ‬العالم‭ ‬برمته‭ ‬اليوم‭ ‬يعيش‭ ‬صراع‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬تهدد‭ ‬الغرب‭ ‬بفقدان‭ ‬هيمنته‭ ‬ونفوذه‭ ‬الاستعماري‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬قوته‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وأهمها‭ ‬منطقتنا‭ ‬الثرية،‭ ‬التي‭ ‬استنزفتها‭ ‬مآسي‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود؛‭ ‬وقد‭ ‬وصل‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬الدولي‭ ‬إلى‭ ‬مراحل‭ ‬متقدمة‭ ‬تستوجب‭ ‬حسم‭ ‬الأمور‭ ‬والنفوذ‭.‬

 

بمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬وكما‭ ‬استثمرت‭ ‬إيران‭ ‬الفرصة‭ ‬التاريخية‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬العراق،‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬استنزاف‭ ‬قوة‭ ‬العرب،‭ ‬وتحقيق‭ ‬المكاسب‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحلم‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬قرون‭ ‬طويلة،‭ ‬فإن‭ ‬إسرائيل‭ ‬تتقدم‭ ‬اليوم‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬معركتها‭ ‬التاريخية‭ ‬لتحقيق‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬خططها‭ ‬التوسعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤجل‭ ‬لما‭ ‬بعد‭ ‬استتباب‭ ‬أمر‭ ‬وتوازن‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬الذي‭ ‬سيكون‭ ‬عائقاً‭ ‬بقواعده‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬القانوني‭ ‬والعلاقات‭ ‬الدولية‭… ‬إذًا‭ ‬إسرائيل‭ ‬تتقدم‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬مخططها‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬الحلم‭ ‬الصهيوني،‭ ‬باحتلال‭ ‬غزة‭ ‬كمقدمة‭ ‬لعمليات‭ ‬أخرى‭ ‬للاستحواذ‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬الأرض‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وتنفيذ‭ ‬المشاريع‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬المرسومة‭ ‬للمنطقة،‭ ‬والتي‭ ‬ستجعل‭ ‬من‭ ‬إسرائيل‭ ‬دولة‭ ‬كبرى‭ ‬رئيسية،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬ملء‭ ‬الفراغ‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬بسياسات‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬الذكية‭.‬

 

اليوم‭ ‬تعمل‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬ملء‭ ‬ذاك‭ ‬الفراغ‭ ‬القيادي‭ ‬والعسكري‭ ‬والسياسي‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية،‭ ‬بمنظومة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬ستتبلور‭ ‬قريباً‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬غزة؛‭ ‬وسيمتلئ‭ ‬الفراغ‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬حينئذ‭ ‬بحالة‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬فيها‭ ‬إسرائيل‭ ‬راعية‭ ‬المنطقة‭ ‬وقطبها‭ ‬الأوحد،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬أذرع‭ ‬وقوى‭ ‬وتحالفات‭ ‬معلنة‭ ‬وسرية‭ ‬خطيرة،‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬الإقليمي‭ ‬وأهمها‭ ‬إيران‭.‬

 

إن‭ ‬اسرائيل‭ ‬تتجه‭ ‬لتكون‭ ‬الدولة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬إقليميًّا‭ ‬ودوليًّا‭ ‬بخطوات‭ ‬حثيثة‭… ‬وبينما‭ ‬العالم‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬عصر‭ ‬سياسي‭ ‬واقتصادي‭ ‬جديد،‭ ‬تتجه‭ ‬إسرائيل‭ ‬نحو‭ ‬فرض‭ ‬سياسات‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬التي‭ ‬ستلغي‭ ‬دور‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬الرسمي،‭ ‬ودور‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬عربي‭ ‬على‭ ‬حدة‭. ‬وهناك‭ ‬توقعات‭ ‬بدخول‭ ‬إسرائيل‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭.‬

 

سقوط‭ ‬القرار‭ ‬العربي‭ ‬الموحد

 

وإن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬القرار‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬له‭ ‬قيمة‭ ‬مقابل‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬قوة‭ ‬عربية‭ ‬قادرة‭ ‬عل‭ ‬حماية‭ ‬المنطقة‭ ‬وشعوبها،‭ ‬فلا‭ ‬قرار‭ ‬عربي‭ ‬موحد،‭ ‬ولا‭ ‬قرار‭ ‬عربي‭ ‬واحد،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬وزن‭ ‬أو‭ ‬قيمة‭ ‬لصالح‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬حتى‭ ‬أجل‭ ‬غير‭ ‬مسمى‭.‬

 

إن‭ ‬أربعة‭ ‬أسابيع‭ ‬من‭ ‬أبشع‭ ‬أنواع‭ ‬الحروب‭ ‬تصب‭ ‬نيرانها‭ ‬على‭ ‬شعب‭ ‬عربي‭ ‬أعزل‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬موقف‭ ‬عربي‭ ‬ذي‭ ‬قيمة‭ ‬لهو‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬الرسمي‭ ‬سقوطًا‭ ‬نهائيًّا،‭ ‬ومؤشراً‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الشلل‭ ‬المرضي‭ ‬للقرار‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬يوصل‭ ‬المساعدات‭ ‬الطبية‭ ‬والوقود‭ ‬إلى‭ ‬شعب‭ ‬تم‭ ‬سجنه‭ ‬في‭ ‬أرضه‭ ‬تحت‭ ‬قصف‭ ‬نيران‭ ‬حاقدة‭ ‬وحارقة‭ ‬أحرقت‭ ‬الأخضر‭ ‬واليابس،‭ ‬وفجرت‭ ‬البشر‭ ‬والحجر،‭ ‬وأنهكت‭ ‬نفوس‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭.‬

 

إننا‭ ‬نعيش‭ ‬عصر‭ ‬بزوغ‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬وشعوبها‭ ‬وحكوماتها‭ ‬وقراراتها،‭ ‬عصر‭ ‬تم‭ ‬حصار‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬البحر،‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬ومن‭ ‬الأقصى‭ ‬إلى‭ ‬الأقصى‭… ‬محاصرون‭ ‬بدول‭ ‬إقليمية‭ ‬عنصرية‭ ‬بالغة‭ ‬الحقد‭ ‬والعداء؛‭ ‬محاصرون‭ ‬بالحروب‭ ‬والمليشيات‭ ‬المجهزة‭ ‬بعتاد‭ ‬وسلاح‭ ‬ذات‭ ‬فاعلية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أسلحة‭ ‬وجيوش‭ ‬دولنا،‭ ‬محاصرون‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الفقر‭ ‬المحرّض‭ ‬على‭ ‬التدمير‭ ‬والثراء‭ ‬المستهلك‭ ‬للعقل‭ ‬والعزيمة،‭ ‬محاصرون‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الصدمة‭ ‬والرعب،‭ ‬ومحاصرون‭ ‬بين‭ ‬فراغ‭ ‬استراتيجي‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬وفراغ‭ ‬فكري‭ ‬مهدد‭ ‬للحاضر‭ ‬والمستقبل‭… ‬محاصرون‭ ‬بالأساطيل‭ ‬والقواعد‭ ‬الغربية‭.‬

 

يأتي‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬بعد‭ ‬مقالات‭ ‬عديدة‭ ‬كتبتها‭ ‬خلال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬محذرة‭ ‬بمؤشرات‭ ‬علمية‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الوضع‭ ‬العربي‭ ‬الراهن‭… ‬ومقالي‭ ‬هذا‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬وواقعية‭ ‬شديدة،‭ ‬تميّز‭ ‬ببعض‭ ‬من‭ ‬السوداوية‭ ‬الذي‭ ‬يحتّمه‭ ‬علينا‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه،‭ ‬ويسعدني‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬أية‭ ‬رؤية‭ ‬مخالفة‭ ‬لهذا‭ ‬الطرح،‭ ‬عسى‭ ‬ولعل‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬أفهمه‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬عمومًا‭… ‬سلوك‭ ‬ومواقف‭ ‬لم‭ ‬نعشها‭ ‬سابقًا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأدارها‭ ‬زعماء‭ ‬وقادة‭ ‬عرب‭ ‬كانوا‭ ‬يتميزون‭ ‬بقدرات‭ ‬ووزن‭ ‬وقيمة‭ ‬عالية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭ ‬والإقليمي،‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليهم‭ ‬جميعًا‭… ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬تغير‭ ‬علينا‭ ‬اليوم‭.

مقالات ذات صلة

إغلاق