مقالات وبحوث

«المليار الذهبي»: الغرب في مواجهة العالم

بقلم : عبد الحميد صيام

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

من أفضل الجلسات التي عقدها مجلس الأمن الدولي، من وجهة نظري، جلسة يوم الاثنين 24 أبريل التي ترأسها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تحت بند «السلم والأمن الدوليان: فاعلية السياسة متعددة الأطراف واحترام ميثاق الأمم المتحدة». ورغم أن الجلسة انتهت من دون إصدار أي بيان، لا صحافي ولا رئاسي، إلا أنها كانت جلسة مكاشفة بين القوى الكبرى.

كانت جلسة ردح ومرافعات قانونية، خاصة بين القوتين الأساسيتين روسيا والولايات المتحدة. كل طرف كان يظهر عيوب الآخر، ويسرد جرائمه ويغفل أو يتغافل عن جرائمه هو.

وفي المحصلة نحن استمتعنا بجلسة لا مثيل لها، تذكرنا بأيام الحرب الباردة، ونكاد نجزم أن كلا الطرفين كان ماهرا في فضح وتعرية عيوب الآخر، وانتهاكاته للقانون الدولي، روسيا تسرد جرائم المعسكر الغربي كله من أيام هيروشيما وناغازاكي، والولايات المتحدة تهرب من كل ماضيها وتتحدث عن غزو روسيا لأوكرانيا، مشيرة إلى الموقف السُريالي الذي تجسده رئاسة وزير خارجية روسيا، جلسة المجلس ودفاعه عن الميثاق الذي يحتوى على لغة واضحة، تمنع استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، لكنه يستخدم القوة في محاولة لإعادة ترسيم حدود بلد مجاور في انتهاك واضح للميثاق. يدافع عن القانون الدولي وهو متلبس بالجرم المشهود في عدوانه على بلد مستقل ذي سيادة عضو في الأمم المتحدة.

أما لافروف فقد غاص عميقا في نفاق ودجل وجرائم الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي عملت على استبدال القانون الدولي بقوانينها هي، وحاولت أن تفرض على العالم لغتها ومفاهيمها وقوانينها ورؤيتها وما خالف ذلك فهو انتهاك للقانون الدولي «وآن الأوان لهذه المرحلة أن تنتهي وإلى الأبد».

قدم لافروف تاريخا لتأسيس المنظمة الدولية التي كان من المفروض أن تكون مركزا لنظام عالمي جديد يحكمه القانون، إلا أن هذا النظام ظل يعاني من أزمة عميقة. والسبب الجذري لذلك هو رغبة بعض الدول الأعضاء في استبدال القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة بـ»نظام قائم على القواعد والقوانين» التي تسنها هي.

وقال إن تلك القواعد صيغت وطُبقت لمواجهة العملية الطبيعية لإنشاء مراكز تنمية جديدة ومستقلة بعيدا عن الهيمنة الغربية.

لكن الغرب ظل يحاول ردع مثل هذه التشكيلات الجديدة عن طريق إجراءات أحادية غير مشروعة، بما في ذلك منع الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة والخدمات المالية، ومصادرة الممتلكات، وتدمير البنية التحتية الحيوية للمنافسين. «إن صندوق النقد الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة تحول الآن إلى أداة لتحقيق أهداف الولايات المتحدة وحلفائها – بما في ذلك الأهداف ذات الطبيعة العسكرية».

لقد وجد الغرب أنه من غير الملائم التوصل إلى اتفاقات ذات صيغة عالمية تخدم الجميع، فقام بإنشاء تجمعات ونواد اقتصادية، يتم اختيار أعضائها بطريقة مصممة لتقويض التعددية (مثل مجموعة الدول السبع) من أجل فرض مفاهيم انقسامية وحصرية وفوقية، بدل التوصل إلى صيغ توافقية تخدم الجميع.

سرد لافروف العديد من «المغامرات الإجرامية» التي قامت بها الولايات المتحدة على مدى العقود الماضية، في انتهاك أرعن للميثاق، سواء في صربيا أو العراق أو ليبيا أو فيتنام أو كوبا أو الصومال أو أفغانستان. ثم حث الحاضرين على التخلي عن المعايير المزدوجة، داعياً إلى احترام إعلان 1970 بشأن مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول. تنبثق الديمقراطية من ميثاق الأمم المتحدة، وتعكس كلماته الأولى المصدر الأساسي للسلطة الشرعية، موافقة المحكومين. وقال: «الأمر لا يتعلق بأوكرانيا، بل ما إذا كانت العلاقات الدولية ستتشكل بالإجماع الذي يوازن المصالح، أم بالتقدم العدواني والمتقلب لهيمنة واشنطن».

وأعلن أن الاتحاد الروسي يسعى لتحقيق القضاء على التهديدات للأمن الداخلي التي أنشأها لسنوات ممثلو منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على طول حدود موسكو، وحماية الناس من أعمال نظام كييف. ودعا الحاضرين إلى احترام مبادئ الميثاق، وتسهيل التعددية الحقيقية على الساحة الدولية، والإسراع بإصلاح مجلس الأمن لتعزيز تمثيل دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأعلن لافروف نهاية تلك المرحلة القائمة على هيمنة المليار الذهبي. وتساءل «من الذي سمح للأقلية الغربية بالتحدث نيابة عن البشرية جمعاء؟».

المليار الذهبي

أكثر ما استوقفني هو مصطلح «المليار الذهبي»، الذي أشار إليه لافروف، قائلا إن هذا المصطلح متداول لدى قيادات حلف الناتو منذ عام 1990 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والمقصود بالمليار الذهبي هو مجموع سكان دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، إضافة إلى حلفائها الأساسيين مثل كندا واليابان وأستراليا والكيان الصهيوني. هؤلاء هم من يستحقون الحماية والثروة والصحة والمصادر الطبيعية والتكنولوجيا والرفاهية.

أما بقية سكان العالم فلهم الفتات والهامش والكَبد واللهاث، واللجوء والهجرة، والحروب والأوبئة والسعي وراء لقمة العيش.

لقد انتشرت نظرية المليار الذهبي في روسيا بعد أن صاغها الكاتب الروسي أناتولي تشيكونوف عام 1990 في كتاب تحت عنوان: «مؤامرة الحكومة العالمية: روسيا والمليار الذهبي».

ثم أصبح حديثا مكررا في الصحافة، ولدى معتنقي نظرية المؤامرة مثل الكاتب الروسي سيرغي كارا- ميرزا، الذي عمم المصطلح عندما أكد أن المليار الذهبي يستحوذ على نصيب الأسد من المصادر الطبيعية في العالم، ولو اقتطع نصف حصة المليار الذهبي فقط ووزعت على بقية العالم، ما بقي فيه جائع أو مريض، وأكد أن نظرية نقص المصادر الطبيعية ونشر الرعب من تآكل المواد الأولية ليس صحيحا على الإطلاق، والهدف منه نشر روح اليأس لدى بقية سكان الأرض، كي ينعم المليار الذهبي بخيرات الكرة الأرضية. فبينما تقوم حكومات المليار الذهبي بتوفير كل احتياجات سكانها ليعيشوا في بحبوحة، يعملون على إبقاء الدول النامية متخلفة وغير قادرة على التصنيع، لتسهيل شفط المواد الأولية من تلك الدول.

فنظرية استغلال شعوب الدول النامية متأصلة في فكر الدول الاستعمارية، التي بسطت سطوتها على أطراف الأرض لنهب ثروات تلك الدول وإبقاء شعوبها متخلفة، بينما ترفع من مستوى معيشة شعوبها بشكل شبه شامل. ولكي نعرف ما قامت به حكومات المليار الذهبي، يمكننا مراجعة القليل من الجرائم التي ارتكبتها بحق شعوب المناطق المستعمرة قبل الاستقلال، واستغلال مصادر الدول النامية بعد الاستقلال والتدخل في حكوماتها، والإطاحة بكل من يعترض عليها، وغزو الكثير من الدول لإخضاعها وتدبير المؤامرات على كل قائد وطني يعمل على حماية استقلال بلاده واستغلال ثرواتها لصالح الشعب المحلي.

انتهاك القانون الدولي

دول المليار الذهبي لا شك أنجزت كثيرا من المخترعات الحديثة، ساهمت في تقدم البشرية ودخول عصر الاتصالات والإنترنت والأقمار الصناعية والحواسيب والاتصالات، وغيرها الكثير. لكن هذه الدول هي نفسها التي ارتكبت جريمة الاستعمار وجريمة الرق التي لا تموت بالتقادم. كيف لشعوب الدول النامية أن تنسى ما ارتكبته قوى «المليار الذهبي» من جرائم بحقها. هل ينسى الشعب الجزائري جرائم فرنسا؟ هل ينسى الشعب المصري جريمة العدوان الثلاثي؟ هل تنسى فيتنام الملايين الخمسة التي أبادها الأمريكيون؟ هل ينسى الشعب الإيراني الإطاحة بالقائد الوطني محمد مصدق عبر انقلاب مخابراتي أمريكي ـ بريطاني؟ هل ينسى الشعب العراقي احتلال أمريكا لبلاده من دون وجه حق لمدة تسع سنوات وقتل مئات الألوف؟ هل ينسى الشعب الليبي ما دمرته غارات الناتو بحجة حماية منطقة حظر الطيران؟ هل تنسى مدغشقر حرب الإبادة التي شنتها فرنسا؟ هل ينسى سكان رواندا وبوروندي جرائم المستعمر البلجيكي، أم ينسى سكان جنوب افريقيا نظام الفصل العنصري؟ هل يغفر الشعب الكوبي لأمريكا كل سنوات الحصار؟ هل ينسى الفلسطينيون جريمة بريطانيا في زرع نظام استعماري إحلالي عنصري في وطنه وتشريد ثلاثة أرباع السكان؟ كيف يمكن للعالم أن ينسى إبادة ملايين السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وكندا وأستراليا؟ هل تطورت صناعة الأسلحة الفتاكة إلا في دول «المليار الذهبي»؟ وهل جرائم المخدرات والاتجار بالبشر والجريمة المنظمة والاستغلال الجنسي والعنصرية إلا من منتوجات تلك الدول؟

إنني أتفهم هذا الموقف الذي عاني منه سكان البلدان التي خضعت للاستعمار والاحتلال والهيمنة ونهب الثروات، وتدمير النسيج الاجتماعي، وزرع الفتن وشن الحروب. يؤيدون الالتزام بالقانون الدولي عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا وكوريا الشمالية وإيران، ولكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين والسودان واليمن وليبيا وسوريا وأفغانستان يتناسون حق هذه الشعوب في الدفاع عن نفسها؟ من يعلن على الملأ تأييد إسرائيل في قرارها بضم الجولان المحتل، ويعلن القدس عاصمة موحدة للكيان ويسكت على جريمة الاحتلال وبناء المستوطنات، وزج الألوف في السجون وبناء الجدار العنصري، لا نريد أن نسمع منه خطابا عن ميثاق الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي ونحن نعرف أنه كاذب ومنافق وعنصري.

مقالات ذات صلة

إغلاق